فصل: فصل: (في الأمان):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يقول ولديورانت: لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زيّ ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص باختلاف دخله، وتتراوح بين دينارين وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية..ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنان ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم.
يقول المؤرخ آدم ميتز في كتابه الحضارة الإسلامية: كان أهل الذمة يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون، وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار.
ويقول المؤرخ سير توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام موضحًا الغرض من فرض الجزية ومبينًا على مَن فُرضت: ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين- كما يردد بعض الباحثين- لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين.
وهكذا تبين بجلاء ووضوح براءة الإسلام بشهادة التاريخ والمنصفين من غير أهله، ثبتت براءته مما ألحقه به الزاعمون، وما فاهت فيه ألسنة الجائرين.
هذا والله أسأل أن يشرح صدورنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اهـ.

.كلام جامع في الجزية للماوردي:

قال عليه الرحمة:

.باب الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالضِّيَافَةِ ضيافة أهل الذمة وَمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، قَالَ: وَالصَّغَارُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ وَتُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا تُحْقَنُ بِهِ دِمَاءُ الْمُشْرِكِينَ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: هُدْنَةٌ، وَعَهْدٌ، وَأَمَانٌ، وَذِمَّةٌ.

.[فصل في الهدنة]:

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْهُدْنَةُ تعريفها: فَهُوَ أَنْ يُوَادَعَ أَهْلُ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً أَكْثَرُهَا عَشْرُ سِنِينَ المدة في الهدنة، كَمَا هَادَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَهَا إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ شروط عقد الهدنة فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا من شروط عقد الهدنة ظهور المصلحة فيها للمسلمين. وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الهدنة على مال من قبل الكفار إِذَا أَمْكَنَ وَعَلَى غَيْرِ مَالٍ إِذَا تَعَذَّرَ، وَعَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الهدنة على مال يدفع للكفار كَالَّذِي هَمَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْخَنْدَقِ حِينَ تَمَالَأَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَغَطَفَانُ وَالْأَحَابِيشُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، لِيَنْصَرِفُوا عَنْهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ هَذَا بِوَحْيٍ مِنَ السَّمَاءِ فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا رَأَيْتَهُ فَوَاللَّهِ مَا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَمْرَةً إِلَّا قِرًى أَوْ شَرًّا: فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ: فَلَمَّا عَرَفَ قُوَّةَ أَنْفُسِهِمْ كَفَّ، وَصَابَرَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ حَتَّى انْصَرَفُوا، فَكَانَ فِيمَا هَمَّ بِفِعْلِهِ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ.

.فصل: [في العهد]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْعَهْدُ تعريفه: فَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لِمَنْ دَخَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ من شروط عقد الأمان تحديد المدة بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ سَنَةً من شروط عقد الأمان، وَفِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ قَوْلَانِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى مَالٍ عقد الأمان على مال يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ، وَلَا أَنْ يَتَوَلَّى عَهْدَهُمْ غَيْرُ الْإِمَامِ من شروط عقد الأمان، فَيَكُونَ الْعَهْدُ مُوَافِقًا لِلْهُدْنَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُخَالِفًا لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ:
فَأَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَوَلَّاهُمَا إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ أمان نائب الإمام. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُجِيبَ إِلَيْهِمَا إِلَّا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ من شروط عقد الأمان حصول المصلحة للمسلمين فِيمَا لِلْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُخَالَفَةِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهُدْنَةَ يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ الْعَهْدُ عَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ، وَاخْتِلَافِهِمَا فِيهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ مُقَدَّرَةٌ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَانْتِهَاءَ مُدَّةِ الْمُقَامِ فِي الْعَهْدِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي مُدَّةِ الْعَهْدِ أَنْ يَتَكَرَّرَ دُخُولُهُمْ بِذَلِكَ الْعَهْدِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ أَنْ تَتَكَرَّرَ مُوَادَعَتُهُمْ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ.

.فصل: [في الأمان]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَمَانُ تعريف عقد الأمان: فَهُوَ مَا بَذَلَهُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَدَدٌ يَسِيرٌ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لِعَدَدٍ كَثِيرٍ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلْعَهْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُخَالِفًا لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ: فَأَحَدُهُمَا: فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِي: الْتِزَامُ حُكْمِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْزَمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا مِنَ الْمُحَارِبِينَ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُخَالَفَةِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَهْدَ عَامٌّ لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْإِمَامُ، وَالْأَمَانَ خَاصٌّ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ غَيْرُ الْإِمَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَهْدَ يَلْزَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، فَنَأْمَنُهُمْ إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ كَمَا نُؤَمِّنُهُمْ إِذَا دَخَلُوا إِلَيْنَا. وَالْأَمَانُ الْخَاصُّ لَا تَلْزَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَمَّنَ آحَادُهُمْ إِذَا دَخَلُوا إِلَيْنَا وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّنُوا آحَادَنَا إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ.

.فصل: [في عقد الذمة]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ تعريفه: فَهُوَ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِجِزْيَةٍ يُؤَدُّونَهَا عَنْ رِقَابِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ، وَهُوَ أَوْكَدُ الْعُقُودِ الْأَرْبَعَةِ: لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُخَالِفَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، وَزَائِدَةٌ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ.
فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ: فَأَحَدُهُمَا: الْأَمَانُ. وَالثَّانِي: كَفُّهُمْ عَنْ مُطَاوَلَةِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ: فَأَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ الذِّمَّةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَعُمُومُ مَا عَدَاهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَسُقُوطُهَا عَنْ غَيْرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الزِّيَادَةِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ، وَمَا عَدَاهُ مُقَدَّرٌ، فَإِنْ قَدَرَهَا بِمُدَّةٍ فَهِيَ نَاقِصَةٌ عَنْ حُكْمِ الْكَمَالِ، وَيَتَقَدَّرُ أَقَلُّهَا بِسَنَةٍ يَسْتَحِقُّ فِيهَا الْجِزْيَةَ، وَلَا يَتَقَدَّرُ أَكْثَرُهَا بِالشَّرْعِ، وَتَتَقَدَّرُ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى مُدَّةِ الْهُدْنَةِ أَضْعَافًا لِأَنَّهَا لَمَّا انْعَقَدَتْ عَلَى الْأَبَدِ جَازَ أَنْ تُعْقَدَ مُقَدَّرَةً بِأَكْثَرِ الْأَبَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُوجِبُ الذَّبَّ عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ أَرَادَهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَمَا عَدَاهُ يُوجِبُ ذَبَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ عَقَدَهَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ لَا يَذُبَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْهُمْ نُظِرَ. فَإِنْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْحَرْبِ جَازَ: لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْهُمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ تَسْلِيطٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ عُقِدَ الْعَهْدُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ جَازَ، وَإِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْإِمَامُ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَى الْمَنْعِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى مَالٍ يَبْذُلُونَهُ. فَإِنْ عُدِمَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ لَمْ يَجُزْ. فَأَمَّا جَرَيَانُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ جريان أحكام الإسلام على أهل الذمة، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوْبَةِ: 29]. إِنَّ الصَّغَارَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَلَهُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّحَكُّمُ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِطَالَةِ. وَالثَّانِي: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا تَلْزَمُهُمْ أَحْكَامُنَا. وَعَلَى الثَّانِي تَلْزَمُهُمْ أَحْكَامُنَا، وَلَا تَلْزَمُ مَنْ عَدَاهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَتَوَلَّى عَقْدَ الذِّمَّةِ إِلَّا الْإِمَامُ، وَإِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ لَهُمُ الذِّمَّةَ.

.مسألة: [في اختلاف الْفُقَهَاءِ فِي أَقَلِّ الْجِزْيَةِ وَأَكْثَرِهَا]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَحَدًا عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ، فَمَنْ أَعْطَى مِنْهُمْ دِينَارًا غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا فِي كُلِّ سَنَةٍ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ أقَلُّ مِنْ دِينَارٍ مِنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ، فَإِنْ زَادُوا قُبِلَ مِنْهُمْ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَلِّ الْجِزْيَةِ وَأَكْثَرِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَقَلَّهَا مُقَدَّرٌ بِدِينَارٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ مَنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ، وَأَكْثَرُهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ مُوَكَلٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ. فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الدِّينَارِ مِنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ، وَإِنْ طَبَّقُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ، وَالَّذِي عَاقَدَهُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ بِحَسَبِ طَبَقَاتِهِمْ، فَيُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مُصَارَفَةً اثْنَا عَشَرَ دِينَارًا، وَمِنَ الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَمِنَ الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهَا، وَلَا أَكْثَرُهَا، وَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي أَقَلِّهَا وَأَكْثَرِهَا، فَإِنْ رَأَى الِاقْتِصَارَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ جَازَ، وَإِنْ رَأَى الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ فَعَلَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلِ سُفْيَانَ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى تَقْدِيرِ أَقَلِّهَا وَأَكْثَرِهَا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا فَتَحَهُ مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ، عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَنْ رَأْيٍ شَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةَ، فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَعَيَّنُ وُجُوبُهُ بِالْحَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِزِيَادَةِ الْمَالِ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالشِّرْكِ صَارَ جِزْيَةً وَخَرَاجًا، فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْخَرَاجُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ وَجَبَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْجِزْيَةُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ. وَاسْتَدَلَّ الثَّوْرِيُّ بِأَنْ قَالَ: الْهُدْنَةُ لَمَّا كَانَتْ مَوْكُولَةً إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَتَقَدَّرْ أَقَلُّهَا وَأَكْثَرُهَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ بِمَثَابَتِهَا لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهَا وَأَكْثَرُهَا. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَعِدْلَهُ مِنَ الْمُعَافِرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ فَسَوَّى بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُفَاضِلْ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا مُعْتَبَرَةً بِعَدَدِهِمْ، وَلَيْسَ يَعْتَبِرُهَا بِيَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ. وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ جِزْيَةَ نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَوْهِبٍ دِينَارًا، وَلَمْ يَذْكُرْ يَسَارَهُ وَلَا إِعْسَارَهُ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَلَمْ يُفَضِّلْ فَدَلَّ عَلَى التَّسَاوِي. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَقَنَ دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالدِّينَارِ- كَالْمُقِلِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أنَ يَتَقَدَّرَ بِهِ جِزْيَةُ الْمُقِلِّ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِهِ جِزْيَةُ الْمُكْثِرِ كَالْأَرْبَعَةِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ دَمِهِمَا وَاحِدَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ جِزْيَتُهُمَا وَاحِدَةً. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا فَعَلَهُ عُمَرُ، فَهَذَا أَنَّهُ قَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ عَنْ مُرَاضَاةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَا يُنْكِرُ مِثْلَهَا إِذَا فَعَلُوهُ. وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّكَاةِ مُنْتَقَضٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ الَّتِي لَا تَزِيدُ زِيَادَةَ الْمَالِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الزَّكَاةِ وُجُوبُهَا فِي عَيْنِ الْمَالِ، فَجَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَالْجِزْيَةُ فِي الذِّمَّةِ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ كَالْأُجْرَةِ، فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ كَالْإِجَارَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، فَهُوَ أَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةٌ عَنْ أَرْضٍ ذَاتِ مَنْفَعَةٍ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ، وَالْجِزْيَةُ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ، فَلَمْ يَتَفَاضَلْ بِتَفَاضُلِ الْمَالِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالْهُدْنَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْهُدْنَةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي عَقْدِهَا بِمَالٍ وَغَيْرِ مَالٍ جَازَ عَقْدُهَا عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي قَدْرِ الْمَالِ، وَالْجِزْيَةُ لَا تَقِفُ عَلَى رَأْيِهِ فِي عَقْدِهَا بِغَيْرِ مَالٍ، فَلَمْ تَقِفْ عَلَى رَأْيِهِ فِي تَقْدِيرِ الْمَالِ.

.مسألة: لَا جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كِتَابِ السِّيَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ، قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَنْدِي فِي أَصْلِهِ، وَأَوْلَى عِنْدِي بِقَوْلِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْمُقِلُّ الَّذِي يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ وَلَا يَمْلِكُ مَا سِوَاهَا، فَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَائِهَا، فَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ، فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِلًا يَكْسِبُ بِعَمَلِهِ فِي السُّنَّةِ قَدْرَ جِزْيَتِهِ فَاضِلَةً عَنْ نَفَقَتِهِ، فَالْجِزْيَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعْتَمِلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ إِلَّا بِالْمَسْأَلَةِ لِقَدْرِ قُوتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ، فَفِي وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ، وَعَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا تُعْقَدُ لَهُ الذِّمَّةُ إِلَّا بِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نُصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ: أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لِأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ، كَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ طَبَّقَ فِي الْجِزْيَةِ أَهْلَ الْعِرَاقِ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ، جَعَلَ أَدْنَاهَا الْفَقِيرَ الْمُعْتَمِلَ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِي كُلِّ حَوْلٍ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْفَقِيرِ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ ضَرْبَانِ عَلَى الرُّءُوسِ وَالْأَرَضِينَ، فَلَمَّا سَقَطَتْ عَنِ الْأَرْضِ إِذَا أَعْوَزَ نَفَقَتَهَا، سَقَطَتْ عَنِ الرُّءُوسِ إِذَا أَعْوَزَ وُجُودُهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التَّوْبَةِ: 29]. فَلَمَّا كَانَ قِتَالُهُمْ عَامًّا فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ غَايَةً فِي الْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ عَامًّا فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ فَقِيرًا، وَلَمْ يُمَيِّزْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَمْرُ بِالْأَخْذِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، وَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ فِيمَا خَرَجَ مِنَ الْقُدْرَةِ. قِيلَ: هَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الضَّمَانِ دُونَ الدَّفْعِ: لِأَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ، وَالدَّفْعُ يَكُونُ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الضَّمَانُ إِلَى الْمُعْسِرِ لِيَدْفَعَهُ إِذَا أَيْسَرَ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ، فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ كَالْمُوسِرِ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنَ الْمَرْأَةِ: لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ الْمُذَكِّرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ قَتْلُهُ بِالْأَسْرِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ بِالْفَقْرِ كَالْغَنِيِّ إِذَا افْتَقَرَ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيْ مَا يُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ فِي مُقَابَلَةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَقْنُ الدَّمِ. وَالْآخَرُ: الْإِقْرَارُ فِي دَارِنَا عَلَى الْكُفْرِ.
وَمَا حُقِنَ بِهِ الدَّمُ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ، كَالدِّيَةِ. وَمَا اسْتَحَقَّ بِهِ الْمُقَامُ فِي مَكَانٍ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ كَالْأُجْرَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَخْذَهَا مِنَ الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهَا عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَمِلَ هُوَ الْمُكْتَسِبُ بِالْعَمَلِ- وَغَيْرُ الْمُعْتَمِلِ قَدْ يَتَكَسَّبُ بِالْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ عَمَلٌ فَصَارَ كَالْمُعْتَمِلِ. وَالْقِيَاسُ عَلَى الزَّكَاةِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَالِ، فَاعْتَبَرْنَاهُ فِي الْوُجُوبِ، وَالْجِزْيَةُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْمَالُ فِي الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا بِالزَّكَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مَعَ اخْتِلَالِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَسْقُطُ بِالْفَقْرِ، فَكَذَلِكَ الْجِزْيَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ مَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِزْيَةِ مِنْ حَقْنِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ لَمْ تَسْقُطِ الْجِزْيَةُ، وَلَمَّا سَقَطَ مَا قِي مُقَابَلَةِ الْخَرَاجِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ سَقَطَ بِهِ الْخَرَاجُ.